الثلاثاء، 27 سبتمبر 2011

مهنتي كمعلم وسيرة العشق

ها أنا ذا أذلف إلى العقد الثالث في مهنة الشوق أرسل رسائلي عبر مسارب الروح ومكامن الشجن كمعلم ومربي للأجيال ... وقفت على تخوم رسالتي المقدسة في المنافي والمهاجر وعلى ثرى الوطن الحبيب .
عملت معلماً في جبال اليمن ومجاهل الجزيرة العربية وفي شواطئ طرابلس الغرب وفي المدن والقرى والنجوع لموطني فلسطين ، ويسعدني أن أغني الشوق لمهنتي الحبيبة .... فما أجمل أن تكون معلماً !!! ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لاخترت أن أكون معلماً .
المعلم في حضارات العالم القديم والحديث هو سيد الدنيا وملك الكون وعلى ترانيم أنفاسه تتحرك الإنسانية وتزدهر الدنيا وتمضي الأيام نحو الحب والخير والفضيلة ، مهنتنا قادرة على أن تجدد سحرها مع شروق الشمس وتمنحك نفسها كل يوم بشكل جديد .
عندما تقرع الأجراس وتنتصب هامات التلاميذ وتحدق ملياً في عيونهم عندئذ تكون قد وصلت إلى شواطئ الهوى وحواف الروح ومعازف القلوب فتنفتح الطريق رحباً إلى أحلامنا الجميلة وغدنا الموعود ، تتلمذ بين يديّ أجيال لا حصر لها وهناك الكثير من تلامذتي درّست آبائهم ودائماً وعلى الدوام زهوت بمهنتي على الأيام ، وأشعر بالفخر العظيم والغبطة الواسعة والناس ينادونني :-
(يا أستاذ) ، كنت أعجب والناس في المنافي والقفار البعيدة ينادونني يا أستاذ وهم لا يعرفونني ، ذلك وأنا أعبر بواديهم وصحاريهم بمركبتي ؟!
داخلي شعور غامر بأنني خُلقت لكي أكون معلماً ، اليوم وبعد سنوات طويلة في مهنة الشوق وأنا أسير في شوارع المدينة المزدحمة تترك امرأة زوجها وأولادها وتهرع نحوي لتحيتي والسلام علي والسؤال عن أحوالي وعندما أسألها من تكون وهل تعرفني تقول بأنني علمتها في الثانوية العامة بمدرسة كذا ؟! فاستغرب كثيراً وأنا أخمّن أنها ربما تكبرني سناً ؟! حصل ذلك كثيراً موظفون كبار ، وشخصيات مرموقة وقادة سياسيون وأكاديميون ألتقي بهم في المحافل والمؤتمرات والندوات ومفاصل الحياة فيسرعون لتحيتي وتقبيلي .... كان ذلك يترك لدي انطباعاً هائلاً بأن زرعنا يثمر وأن مهنتنا وفيرة الغلال وعلى المعلمين أن يؤمنوا بأنهم رسل الحياة وقادة الدنيا ولو تغير الزمان قليلاً وصرنا نشهد انحطاطاً لمهنة المعلمين في أعين الكثير من الناس .
عندما كنت ألوذ ببعض الاستراحات الهاجعة في ليالي الصحراء العربية الشاسعة لأستريح بعد مسيرة مئات الأميال بلا توقف بين تهامة عسير وجبال اليمن كنت أصغي باهتمام الى البدو من اليمانيين الممددين على كراسيهم الطويلة يتهامسون :- انه فلسطيني ، وبعد أن ألقي بجسدي المنهك وأبدأ بالتقاط الأنفاس كانوا يقتربون مني وينادونني :- يا أستاذ ؟! كنت أغرق في الدهشة إذ كيف يعلمون إنني أستاذ ؟!
في الوقت ذاته كانت تطرب روحي وتغني جوانحي لأنني أُجسّد هوية المعلم بلغة الصمت الصاخبة ! تحدرّت الكثير من الخطوب في مشوار عمري التربوي كان أكثرها عصفاً السجون وملاحقة الاحتلال والتوقف عن العمل بالقرار العسكري الصادر عن قيادة الضفة الغربية بل أنني أحمل وسام أطول مدة لمعلم فلسطيني مفصول من قبل الاحتلال الإسرائيلي ، سألني ضابط المخابرات يومها (على من الرزق)؟! كانوا يستهدفون عقيدتنا وتحفزنا وقيمنا وعزيمتنا للحياة قبل مستقبلنا وأحلامنا وأمانينا الغالية ؟!
أستطيع هذا العام أن أخمّن بأن الجدل الصاخب المحتدم حول تقرير المعلم السنوي إنما أريد به الاقتراب من روح المعلمين المتحفزة رغم قساوة الظروف وأن مجرد الإصغاء إلى تصريحات المعلمين في كافة المناطق تترك انطباعاً بأن مدير مدرسة ما لم يعلم في حياته ولا حصة واحدة ما كان له أن يقوم بتقييم كبار المعلمين وأن لا يعطي الفرصة لتصفية حسابات شخصية وأن يدرك ثاراته العشائرية والفصائلية وغيرها .
إن وجهات نظر عشرات الآلاف من المعلمين لا يمكن ان تكون هدراً أو نافلة من القول فهل ما حصل كان أيديولوجيا خفية تجتاح منظومة التعليم لوضع المعلم في قفص الاتهام وتضطره للدفاع المتواصل عن نفسه الى درجة الانهاك ؟! ... عندئذ يضيق الأفق وتبدأ أيقونة المربي المتوهجة عبر السنين بالتلاشي والذوبان ؟!
قال أستاذ مجيد لمديره :- ما هي استراتيجيات التعليم التي قمت بتطبيق 4 من 6 منها وأنا لا أدري فلاذ بالصمت ولم يُعقّب ؟! فسأله كيف رصد له 4 درجات على أداء لا يعرف ما هو ؟!
إذن هي أدوات ونقاط صيغت لمنح المدير هوامش واسعة من الحرية للحكم على المعلمين مزاجياً ونفسياً أو عاطفياً ...... الخ ؟!
وقال آخر بأن بعض المشرفين تشارك مع مدير مدرسة يتربص بمعلم ريب المنون في مسألة التقرير وأضاف لآخر أن بعض المشرفين يتصرفون كآلهة ؟! وأن الكثير منهم التزموا المهنية والاستقلال في تقارير المعلمين واعتقد بأنه اذا أسيئ تقدير معلم ما ظلماً وزوراً فلن يعود معلماً كما كان ؟! كما يقول الفيلسوف الصيني الشهير بان شيمون.
وهذا منهج تربوي يحظى بالموافقة من قبل الكثيرين من فقهاء التربية وتظهر الاستطلاعات الشاملة بأن هناك معلمين نجح طلابهم بنسبة 100% في الثانوية العامة وبتفوق يتم استهدافهم بالتقارير السنوية وغمطهم حقوقهم تصفية لحسابات خاصة بينما يتم تقدير آخرين عالياً رسب أكثر من نصف طلابهم في الثانوية بقلم نفس المدير ؟!
ويتساءل آخرون لماذا تقوم مديريات تربية بإقطاع مدارس بكامل منظومتها لمدراء يؤكد واقع الحال بأن بعضهم لم يكن معلماً في يوم من الأيام ، فيصرح أحدهم أمام الناس بأنه يقوم بالتطهير العرقي بمدرسته فيقدم توصيات بنقل عمالقة المعلمين في كل عام والمديرية تصدر قرارات تتساوق مع مزاجه ورؤاه دون البحث والتقصي فهل يعمل المعلمون بملاك التربية والتعليم أم بمزرعة المدير الخاصة ؟!
هذه مهنتي تعايشت مع شذى عطرها صفو أيامي وأجمل لحظات العمر أعز أحبتي عملوا في مهنة التعليم في قرى الخليل وريفنا الجميل في نابلس وطولكرم تقلبنا طويلاً في خمائل الروح رغم غصة القلب انه وشم على حبات العيون ، واظبت في مهنتي على مزارات الهوى في محطات يجهلها الكثيرون وتعرفها النجوم ، لا زلت أرسل رسائلي مترعة كمربي محاولاً إعادة أنشودة المساء القادمة مع صبا الجنوب فيتردد صهيل الخيل وترانيم الوداد وهدهدة الليل لتبدأ قيثارة الروح بالعزف على أوتار القلوب .
إنها قصة عشق كنعانية لم تنته بعد فحلمنا في الوطن قد تجاوز الخيال وانطلق كالخيول الأصيلة يعدو كي يستقر في الأعالي يهتف بلا توقف لسيرة العشق العظيم ، ها أنا أواصل ترتيل قصائدي على شواطئ الكروم ، نظمت أشعاري وأرسلت خواطري من باحات المدارس في كل مكان – عبر المدى لم أزل – على شواطئ مهنتي كمعلم – أنادي على أحبتي وخلّاني وصحبي الذين أبعدهم النوى من بساتيننا الوارفة الظلال أواصل رحلة الحياة كمربي متسربلاً بأردية الوفاء للجيل الآتي وكروم جدي ودقات قلبي وشوقي العظيم لمن منحتهم حباً عظيماً خالداً وشوقاً كبيراً يقيم ولا يرتحل ويزداد رزفاً مع الأيام .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق