الجمعة، 26 نوفمبر 2010

مرافئ العاشقين ..... وشمٌ على حبّات العيون

كانت تتهادى أمامي في أفق الدرب الرحيب الممتد نحو المدى الذي يفيض صوب حيفا ويافا منذ الأزل .....

عندما انعطفْتُ يميناً واستوى الشارع أمامي ينساب بهدوء ......

إنها إحدى طالبات المدرسة الثانوية بحيّنا .... انفصلت عن صُوَيحباتها وقصدت الطريق الذي يتفرع ناحية اليسار .... تدبّ الخطى لوحدها ، يبدو المشهد أمامي – حتى الآن – طبيعياً واعتيادياً ويخلو من الغرابة والاستهجان ....

لم يمض كثير من الوقت حتى دخل المشهد في دائرة التساؤل الحزين فثار الشوق واستيقظ الحنين وذلك عندما ذَلفتْ الفتاة يميناً ودخلت باحة المقبرة ....

عندها بدأْتُ بإبطاء الخطى وعندما تَوقفَتْ على إحدى القبور ترنو إليه في شوق وخشوع كنت أنا قد توقفتُ تماماً لأرقب المشهد وأعاين الصورة الماثلة أمامي .... وأقرأ ترانيم الوداد في سفر الوفاء ....

لَبثَتْ واقفة على ناصية الضريح لا تتحرك وقد ساد الصمت وخيّم الهدوء الصاخب على المكان المترامي ....

لم ترفع عينيها عن الضريح .... انحنت قليلاً لتزيل الغبار وأوراق الشجر أنزلت حقيبتها عن كتفها وأخرجت قارورة ماء وشرعت تسقي نبتة الريحان النابتة وسط الضريح ثم أغلقتها وأعادتها وعادت تستكمل وقفة الصمت والخشوع وقراءة ذاكرة الأيام واسترجاع الماضي الجميل ....

كنت لا زلت مكاني أرقب قيثارة الروح وهي تغني لحن الراحلين عندما تذكرتُ صاحب الضريح الذي تقف الفتاة بحضرته والذي غابت شمسه منذ سنتين .... انه والدها الذي تُوفي وكان شاباً .... فهل نَسِيَتْ شباب العمر بعده والزمان ....؟

كم شعرت بالأسى والحسرة وأنا أطالع صفحة الوفاء والحنين المرسومة أمامي وقد رجعت في نفس المكان .... هناك صرت أرقب الرياح العاصفات تهزني .... قد مر عام منذ الرحيل أو ربما عامان .... هذه الفتاة التي نقشت لوحة الخلود في ذاكرة الزمن وطرّزت أهداب الحياة بلمسة الحب العظيم .... اتخيلها كيف كانت تلوذ بأبيها لترتوي من ظمأ الأيام وتحتمي من قسوة الزمن .... شاهدْتها مرة أخرى تجلس الى ضريح والدها مُطرقة ساهدة حزينة لدقائق قبل أن تمضي الى منزلهم .....

أتخيلها وهي تشكو الزمان وتعاتب الأيام وتبعثر أحزانها في امتداد الكون ....

انها تثير الشجون وتنكأ الجروح وتستدعي قلوب الإنسانية جمعاء لمتابعة مشهد التأمل الحزين ....

انها بالرغم من رحيل والدها عن الدنيا الا انها لا زالت ترابط في محطات الوفاء ..... فها هي تهرع نحو الضريح عندما يشتد بها الظمأ ويعصف بخاطرها الحنين وتجيش ذكريات الأمس في جوانحها ..... عندما تفتقد والدها الغالي تأوي الى ذلك الضريح كي تنادي على الراحلين من الأحبة الكبار الذي مضوا وتركوها تصارع الشوق بقية العمر .....؟!

كنت قد شاهدتها فيما بعد وقد تحلقت حول القبر مع اخواتها يسترجعن أنشودة الحياة وعطر المساء .....

كلما أبصرت ذلك المشهد الذي صار يتكرر كثيراً يصيح الألم في صدري كصهيل الجبل القادم من بعيد .... وتصرخ أعماقي وأنا أتخيلهن وهن يهتفن بلا توقف وينشدن في حبور :-

يا راحلين عن الديار أحبتي كنتم ربيع قلوبنا قلب المصدّ

اذكر أن لأولئك البنيات أخَوان الأول وكان أحد طلابي تخرج من جامعة خضوري والثاني الصغير وهو يدرس الهندسة بجامعة حلب واذكر أيضاً أن الناس يتألمون ويصرخون عندما يفتقدون أحبائهم ..... ولكني لن أنسى أن أذكر الهاجعين في دروب الحياة أن هنالك أناسٌ في هذه الدنيا يمضون أعمارهم وهو يبكون أحبائهم – الذين مضوا- وبلا توقف ...... أولئك هم الذين يرابطون في محطات نجهلها وتعرفها النجوم ..... يواظبون على مزارات الهوى ..... يحجون الى مرافئ العاشقين ...... يدبّون هنا بيننا على أرض تتماهى بزيتونها وأشجار السنديان ..... يسائلون أقحوان الجيل وشقائق النعمان عن الظاعنين فيما اذا ما عبرت رواحلهم قريبة من ديارنا ودروبنا ؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق