الثلاثاء، 19 أبريل 2011

مدرسة ثكلى في مواجهة الموت

عندما نكتشف فجأة بأن التلاميذ يتعلمون على رائحة الموت الذي استوطن مدرستهم على مدار العام ، ليرتحل على متنه أربعة من معلميهم الأحبة ، واحداً تلو الآخر في مشهد تفردت به المدرسة الابتدائية بدير الغصون ، تلحظ ذلك وأنت تطيل النظر في حدقات عيونهم وهم يتذكرون ويتألمون في خيالهم السابح في مدارات وعيهم وطفولتهم ، أسئلة صاخبة يصفعون بها من حولهم من الناس علهم يعثرون على شواطئ الروح عندئذٍ ننتحب صامتين في خشوع .... ونداري صرخات قلوبنا وهي تصدح بالنشيد الحزين لذكرى الراحلين .

في مدرسة ابتدائية بدير الغصون الوادعة والتي تتربع على جبال ترقب شواطئ العشق منذ الأزل هناك في حيفا ويافا .... عندئذٍ تصرخ قلوبنا ليشتعل الحنين وننشج صامتين ، يتحدث التلاميذ كثيراً عن يومياتهم وذكرياتهم مع أحبتهم من المعلمين الأربعة الذين طواهم الموت على مدار عام ، واحداً تلو الآخر ، ويحق لنا أن نستدعي قلوب الحالمين وعقولهم ودوائر الاهتمام بالطفولة في كل مكان بأن يقفوا معنا لترميم تلك المشاعر الغضة والأحاسيس البكر من العوامل النفسية التي تتهدد نفسياتهم .
عندما كانت أحلامهم توشك أن تقترب من مرافئ النسيان يترجل فارس آخر من المعلمين ليغرقوا ثانية في التأمل الحزين والذكرى الجميلة ..... فيعودون الى المحطة الأولى ..... وهكذا لا يتركهم الموت يلتقطون أنفاسهم ..... على مدار عام بأيامه ولياليه عزفت قلوبنا لحن الرحيل الأخير في حواري القرية وباحات المدرسة وعلى التلال والسفوح والسهول التي تترقرق بخضرتها وهي تغني للغد الآتي .

يواصل التلاميذ تأملاتهم وخواطرهم ونظراتهم الصاخبة في صمت حيث كان يقف الراحلون ويتحركون وينشطون وعيونهم تسرح كثيراً باتجاه المقابر عندما يمرون من هناك حيث يرقد أحبتهم الذين رافقوهم طويلاً في رحلة الشوق وهم يصدحون أغنية الحياة .

كم هو جميل أن ننصت في حبور الى التلاميذ الصغار وهم يرددون سيرة الوفاء العظيم حول أساتذتهم الراحلين كلٌ بطريقته ، ونحن معلمي القرية وأساتذتها نتذكر زملائنا الأحبة وأخوتنا في مهنة الشوق وكلهم من الشباب الذين أدبتهم الحكمة وأحكمتهم التجارب ولا زلنا نرابط في محطات ذكراهم حتى لا تفوتنا مراكب الوفاء لمن جادوا بشذى الأيام وأزاهير الزمن ، وأناروا الدروب أمام الأجيال الصاعدة .

الأخ الحبيب الأستاذ / ماجد مهنا (أبو حسّان) ذلك الشاب الأديب ، كان رفيقنا في دروبنا المتعثرة ، أوقفه الاحتلال عن العمل بسلك التعليم فالتحق بقافلتنا كمعلم مفصول أمنياً وبقي ثابتاً مجاهداً لم تلن له قناة ولم يتراجع ولم يهن .

الأخ الحبيب الأستاذ / جمال فرسخ (أبو محمد) كان زميلاً من أيام البواكير في المدرسة ورافقنا الى مقاعد الجامعة ثم ترك وتابعنا نحن ، دخل السجون لأكثر من أربعة أعوام وبقي ثابتاً كالطود الشامخ ..... صحبنا في الحل والترحال ..... اذكر أننا كنا نتمشى في الأمسيات في دروب القرية فكان يتركنا لكي يصعد الجبل ثم يهبط بأقصى سرعته ويتحدانا أن نفعل مثل ذلك ، كنا إذا جلسنا في إحدى الاستراحات أو المقاهي للاسترواح ظل واقفاً يمارس التمارين الرياضية الشاقة ..... أتذكر اليوم كيف كان يعود من المدرسة الثانوية إلى القرية جرياً على الأقدام في كل يوم ليسبقنا جميعاً .

الأخ الحبيب الأستاذ /حسن الحسن (أبو قتيبة) اسم على مسمى ، نشعر بالفرح والسرور لمجرد مشاهدته ويشعرك بالرضا ..... يتحدث التلاميذ كثيراً عن الأستاذ حسن ، كان قريباً منهم ، بعضهم يبكي لمجرد ورود اسم الأستاذ حسن في سياق الحديث ، كان طيباً مهذباً يحترم الآخرين ..... إذا تكلمت أصغى إليك باهتمام ثم يهز رأسه موافقاً .

الأخ الأستاذ / جودت القطو (ابن خالتي الحبيب) ترك بصمات واضحة في مدارس القرية من الصعب تجاوزها ..... دخل السجون ومُنع من التعيين أيام الاحتلال صمد طويلاً وظل ثابتاً ولم يتراجع ..... شخصية جماهيرية من الدرجة الأولى ..... يكره الظلم والإذعان ..... وقف معادياً للرموز الشوهاء من المهادنين والتحريفيين الذين ركبوا متن المرحلة ليمثلوا دور السادة والنبلاء ..... كان فلاحاً أصيلاً ومزارعاً منتمياً للأرض التي ارتوت من حبات عرقه الحارة .... عرفه المزارعون والمثقفون والطلاب والثوار وعرفته السجون وقلاع الأسرى في الخليل وجبل النار ، عندما ارتحل أبو محمد القطو بكته دير الغصون كما لم تبك أحداً مثل ذلك .
كنت أرقب والدتي (خالة المرحوم) وهي تنتحب بلا انقطاع فكان الناس يبكون لنحيبها المنساب الى عروق الروح ....

تحية حب ووفاء إلى المدرسة الابتدائية بمديرها ومعلميها وتلاميذها الأحبة الذين يواصلون سيرة الوفاء ويرابطون في قلاع المحبين ويهدهدون قلوب تلاميذهم ويرسلون أغنية الحب في عين الأفق المسافر فوق مياه البحر ..... فقلوبنا وعقولنا وأرواحنا ترزف معكم وتهتف في حضرتكم نحو الغد المشرق الجميل ..... المحطة التالية في مسيرة أبنائنا إلى العلا .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق