الاثنين، 19 أبريل 2010

^^& قمر الى حقلنا خلف الجدار &^^

^^ & قمر الى حقلنا خلف الجدار & ^^


أنا فلاح من القرية .... تفتحت عيناي على دروب حقلنا .... طربت روحي على حفيف غراسنا .... درجت خطواتي الأولى على تراب مارسنا .... هناك آية الله في الحُسْنِ وينابيع الهوى وطير يُغرّد وموّال جدي وصَدْح النهار .

على أديم حقلنا عشقنا الحياة .... وألفْنا الزمن .... وتصالحنا مع الأيام .... كان اذا حلّ المساء قفلنا راجعين لبيتنا .... حتى إذا أنخنا مطايانا اعتلينا سطوح الدار لنعاين مارسنا من بعيد .... فتهجع الأرواح وترتاح الخواطر ونكمل أنشودة الحياة ....

في تلك السهول والسفوح والحدبان تدحرجَت طفولتي .... وفي ظلال اللوز والزيتون والخرّوب والحنّون .... هناك في (دير الغصون) طويْتُ أيامي ....
هناك على صخور حقولنا جلست طويلاً لأتأمل الأفق الممتد نحو المدى صوب حيفا ويافا .... ورسمْت صورةً لجدي في مخيلتي وهو يبرجم (دامع العينين) وصوته الرخيم يتردد في جنبات الوادي :-
يا دار يا دار وان عدنا كما كنا لطليك يا دار بعد الشيد بالحنا

كنت أدرك بطفولتي أن جدي يتألم ويقاسي .... اعتدت أن أرقب حركات جدي وهو يعاين الغراس ويطيل النظر .... كان يعرفها شجرة شجرة كما يعرفنا .... كنت أتأمل أبي وهو ينظلق على جواده كالسهم يدور حول البساتين وينادي على العابرين .... أدركت مبكراً بفطرتي المجردة أن حياتنا ووجودنا تعني حقولنا وغراسنا وبساتيننا وبدونها تنتهي الحياة ويتلاشى الوجود وتُطفأ شمس النهار .... لا أذكر أن جدي تحدث الينا أو حدّثنا أو قصّ علينا حكاية أو رجّع موالاً دون أن يذكر الأرض والزيتون والحقول ....

أرضنا الراقدة هناك خلف تلال الضياع .... خلف }جدار الفصل العنصري{ البغيض ، كنا نلوذ بنبعها الرقراق }عذب النمير{ لنرتوي من ظمأ الأيام وهجير الزمن ..... ونعبّ من غدرانها لتهدأ جوانحنا .... آوي لظلالها الرطيبة الحانية لتهدهد شوق أيامي وعطر قصائدي ....
ففي ظل أشجارها السارحة في السماء كتبت أول أشعاري وأنا أسافر من الطفولة نحو الصبا هناك في ظهر مارسنا كانت لنا أحلام .... كانت لنا أمانينا زريف الطول والموّال هناك في لوحة خيالنا الحالمة .... ينتصب الجدار .
هل حان ميعاد البذار .....؟ أم عاد شوقي واستدار .....؟
هناك في خمائل النوى ..... قمر يجيب ولا سؤال .....

لم يسبق لي أن رأيت جدي باكياً قط الا أنني أبصرته يبكي بصمت وهو يشاهد زيتوننا ينهار أخضر مكللاً بالثمر ..... كلما كان البلدوزر العملاق يقترب من زيتونة ، كان جدي يرفع كلتا يديه صارخاً لا تقتلعوا شجرنا فكان الحراس يبعدونه بلطف ويقطعون الشجر ، فيزفر جدي ويولول وهو ينادي :- يا الله .
كم تمنيت لو اقتلعوا غراسنا بعيداً عن مدار جدي ، ليته لم يشهد المجزرة ، هكذا كان يسميها بعد ذلك وكان دائماً يقول : يزول الجدار عندما نكون جاهزين للقتال ..... أين الناس ..... أين أصحاب الحميّات والنخوات ..... أين العرب ..... أين هم أهل الإسلام .

كان جدي محارباً مع الأتراك في مرتفعات القوقاز لا زال يذكر كيف كان يضرب على المدفعية وساقاه منغرزتان في الثلوج ، لا زال لدى جدي – الذي يطوف فوق التسعين – الجاهزية العالية لممارسة القتال مرة أخرى بعد زرع الجدار في خاصرة حقولنا ، تغير جدي وتبدلت نظرته للحياة .
صرت أفهم أن بساتيننا كانت بالنسبة له هي الحياة والأمل والحب العظيم .
كلما جئنا على ذكر الأرض صار جدي يرثي أرضنا وينوح نوح الثاكلين .
عند اجتياز جدي للبوابة الالكترونية وهو ذاهب الى البساتين قال له أحد الجنود :- الى أين يا حاج ؟ أجابه :- الى أرضي ، هذه أرضنا فلماذا تحاصروننا وتشيّدون الجدران على أرضنا ، هل هذا هو السلام ؟ فيرد الجندي :- يا حاج انها اوامر عسكرية ، قل لي :- أنت فتح أم حماس ، ردّ جدي محتداً فتح وحماس ابنا رجل واحد وأم واحدة أما أنتم فمحتلون مستوطنون وأنتم زائلون واحتلالكم زائل ، نحن هنا على أرضنا بقرار رباني سنرى ماذا يفعل عسكركم بقدر ربنا العظيم .

صار جدي سليم مثار اهتمام الصحافة الأجنبية المتواجدة على بوابات الجدار في غدوه ورواحه الى الأرض ، كان يتكلم بصوته الجهوري وهو يشير بكلتا يديه الى الجدار والى السماء ، كان أحدنا يترجم لبعثات الصحافة ما يقوله جدي وقال لهم ذات مرة انه لا يفهم لغتهم ولكنه يتكلم التركية بطلاقة فكانوا يضحكون وطلبوا منه ذات مرة ان يتكلم التركية ففعل ؟!

لاحظت أن هنالك تأصيل جديد في نظرة جدي لمسألة الصراع مع اليهود فصار مؤخراً يردد في كل مناسبة بأنه لا بد أن يقاتل الناس لاسترداد الحقوق ولازالة الجدار لأن الجدار لا ينهار الا اذا استعدنا حيفا ويافا واللد والرملة وعسقلان .....

هناك في عين الأفق الرحيب الممتد نحو المدى تترقرق ذكرياتي المتعبة ..... في حقل جدي عرفت زرقة السماء ولحن المطر .....
وناجيت قلبي لعزف السواقي وظل الشجر .....
وروحي تهادت بتلك الروابي وناديت شوقي فهل من خبر ؟!
وأعدو وأشدو بطول البطاح ..... وترنو عيوني لحلو الزهر .....
هناك أرض آبائي وغراس جدي وآثار أبي ..... وذكريات طفولتي وصحبة إخوتي
هناك على شواطئ الروح ..... كانت تتهادى أحلامي .....
فتسبقني مخيلتي وأوهامي ..... فأعدو اذرع البطحاء أنقّب في زوايا الكون عن ألحاني الضائعة وأشعاري التي عصفت بها نوائب الأيام .....

هناك في مدار حقولنا كنا نحلق منذ الطفولة في تلك اللوحة الربانية التي طرزتها يد القدر ..... فألفنا الجمال والروعة والحسن الأخاذ والأفق الساحر والمدى الرحيب .....

أتساءل اليوم ما إذا كان باستطاعتنا استئناف مشوار الحياة بعد أن فقدنا فردوسنا الحبيب ؟!









ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق