الخميس، 11 فبراير 2010

الحاجة جميلة أبو الرب .... والرحيل الأخير بعيداً عن نسائم حيفا



لطالما كانت تعتلي سطح البيوت لتحملق بعيداً عبر الأفق المسافر فوق مياه البحر ........ تظل مرقرقة في عين الأفق البعيد ترتاد نبعاً صافياً عذب النمير ....... ترنو إلى هناك ..... حيث مطاوي الأفئدة ولفائف الأحشاء .

طالت الأيام وامتد الزمن ولم تحن لحظة العودة إلى البلاد والديار والمرابع والقفار ، ولكنها كانت تعود إلى هناك بخيالها الذي لا يهدأ وبصرها السابح في فضاء الكون في الصباح وفي المساء لتصافح تلك النجوع من وطن اللجوء حيث لاذت بأطفالها من هناك في دير الغصون .

وصلت الحاجة جميلة أبو الرب ( أم غازي سوالمة ) إلى قرية دير الغصون قادمة من قرية السنديانة الفلسطينية في رحلة الهروب الكبير في الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948م ، استطيع اليوم أن أتخيلها وقد وصلت إلى مشارف قريتنا وهي تحتضن طفلها الصغير وتمسك بيدها طفلها الكبير الذي لم يتجاوز الرابعة من عمره ، ومنذ ذلك اليوم حملت بطاقة لاجئة مع مئات الآلاف الذين شردتهم النكبة والهزيمة العربية والمؤامرة الدولية .

تركوا بساتينهم وقراهم ومنازلهم ...... تركوا الوطن – هذا المصطلح الذي لا يعني الممتلكات فقط - ؟!
وهاموا في فضاء الكون يصرخون ولا زال صراخهم يعلو ويتردد في جنبات الدنيا ؟!
كانت في ريعان الشباب وفي عنفوان الصبا وكان عليها أن تواجه صعوبة الحياة وقسوة الأيام وأن تحارب بشراسة كي تستطيع أن تعيش مع أطفالها وزوجها أبو غازي رحمه الله .
كانت دائماً تروي قصة النكبة ورواية التشرد ( بالتفاصيل الدقيقة ) حتى قبيل رحيلها بـأيام ....... رددت دائماً بلا كلل أو ملل كيف أنهم رفضوا الخروج من الأرض الطيبة حتى جاء ذلك اليوم الذي أعلن فيه مختار القرية قائلاً :- ( إني راحل فارتحلوا ) ، خاف الناس من جرائم اليهود ومجازرهم بعد مذبحة دير ياسين – تتابع الحاجة جميلة رحمها الله – فهاموا على وجوههم مرتحلين على الأقدام حتى وصلوا لمحطات اللجوء الباردة والقاسية ، كانت رحمها الله في الثمانين لكنها كانت لا تزال تتألم وتصرخ من ألم اللجوء والتشرد ، كانت تردد الحكاية بمرارة بالغة وكانت تقول :- قلت لأبي غازي - زوجها - اشتري لنا بيتاً أو أرضاً تؤوينا ولكنه كان يصرخ بأنهم عائدون بعد يوم أو يومين وأن الجيوش العربية وجيش الانقاذ على وشك الوصول ،،،، هكذا تراكمت الأيام وتعاقبت السنون وكبر الأولاد شيئاً فشيئاً والنكبة مستقرة في جوانحهم حتى أصبحت جزءاً من نمط الحياة اليومية وغصة علقمية في حلوقهم جميعاً ؟!

عاين أهل القرية ( الحاجة جميلة ) وهي تقاتل بلا هوادة للحصول على حياة كريمة لتربي أولادها ، وكانت تُعرف بكبريائها ورفضها الدائم للتنازل عن ذرة واحدة من كرامتها أو كرامة أهلها رغم قساوة الظروف وتنكر الناس ، عصاميّة من الطراز الأول ، وفيّة لأبنائها وبناتها وأولادهم ، متدينة ، كريمة ، عالية الهمة ...... أكسبتها محن الأيام قسوةً وحذر ، عملت بيديها حتى دميت لتداوي جراح الزمن وتضيء سواد الليل ، عملت في الفِلاحة حتى تقرحت يديها ، طوت القفار والسهول والسفوح وهي تطوي المسافات ..........عضّها الزمن وطوحتها الخطوب وعصفت بخاطرها الرزايا وهي واقفة كالطود في وجه العواصف والرعود ، تنادي على أولادها من دير الغصون إلى عمان إلى الكويت ، ارتحلت كثيراً الى المهاجر والمنافي لكي تسعد برؤية أبنائها وأحفادها ....... حلمت طويلاً في العودة الى الديار ........ قصّت حكايات الرحيل وأحاديث الغربة على أوتار الموّال الفلسطيني عن حياتهم قبل النكبة ........ وكانت تطلق على تلك الفترة (الزمن الجميل) .

رددت دائماً بأنها تزوجت وهي في الرابعة عشرة من عمرها وحملت مسؤوليات الحياة باكراً ، اقتحمت حدود العام 1948م بعد النكسة في العام 1967م لزيارة قريتها (السنديانة) ...... مرابع الشوق والأرض الطيبة وهناك شاهدت كيف قام التتار بتسوية القرية بالأرض واستطاعت التعرف على بقايا البيوت ومعالم الأطلال وقالت بأن المقبرة لا زالت على حالها فعرفت القبور وزارت قبر أخيها ........ وتوقف قلبها لدى مشاهدتها أرضهم ومزارعهم وعيونهم وقد تحولت الى بساتين للكرمة يفلحها المستوطنون .

مكثت الحاجة جميلة سنوات وسنوات وهي تتحدث عن تلك الزيارة التي نكأت الجروح وأثارت الشجون وتقول :- بأنها جدّدت نكبتنا ويا ليتها كانت العودة التي عشنا عشرات السنين ونحن نُمنّي النفس بها .

روت الحاجة جميلة الكثير الكثير من الحكايات حول شواطئ حيفا والنسيم العليل فوق تلك الذرى ...... الكرمل والفراديس وكفر قرع السنديانة وعن الينابيع العذبة والماء الوفير والهواء الرطيب وعن خيرات الأرض وعطر ثمارها وعن موسم الحصاد وترانيم الحصادين ومواويل الزرّاع والسمّار والظاعنين ، طوت سنوات عمرها وهي تغني لأحلام العودة وتنادي على نوارس الصباح ، رزفت الحاجة جميلة يرحمها الله طويلاً لمواسم الفرح تيمناً بمستقبل جميل يداوي الجراح ، جاهدت طويلاً للعثور على وطن آمن بعد وطن الحب والصفاء هناك في سنديانة الشوق والحب العظيم ، ولمّا أضناها البحث وأعياها يباب الانتظار رحلت (الحاجة أم غازي سوالمة) في اليوم الثاني من كانون الثاني عام 2010 للميلاد بصمت يقطّع نياط القلوب إلى حيث يرتحل الناس في مشوارهم الأخير ........ نحو ربها في حبور ، بعيداً عن حيفا ويافا ............ انتحب المحبون والأقربون والساهدون كثيراً لارتحالها بعيداً عن شواطئ القلب ونسائم الروح ومرابع الصبا هناك في سنديانة الحب العظيم .
**********

سليم عبد الرحمن الزغل
دير الغصون
10/2/2010م

هناك 3 تعليقات:

  1. الله يرحمها ويجعل مثواها الجنه يااااااااااارب
    يسلمو عالكتابه الرااائعه ..

    دمت بخير

    ردحذف
  2. رحمها الله واثني على هذه المقالة الرائعة

    ردحذف
  3. الله يرحمها ويجعل مثواها الجنة :)

    ردحذف