السبت، 15 أغسطس 2009

الخليل أغنية الخلود وشوقٌ بلا حدود

الخليل أغنية الخلود وشوق بلا حدود

ها أنا ذا اُغني للخليل مرة أخرى في سيرة العشق ، وأُرسل أشواقي مترعة مع الطيور المهاجرة نحو الجنوب في محطة الشوق الساهرة هناك ترقب الزمن وتنادي على مراكب الراحلين صوب النهار ..... ها أنا ذا أُكمل القصيد ..... وأرزف مرحى لواحة العمر ..... مرحى لعطر الذكريات ورائحة الزمن الجميل .
عندما أنخنا مطايانا في الخليل ابتسم الزمان وتنفست الذكريات وغرّدت أرواحنا بعد يباب الانتظار .

إن مجرد السير في دروب الخليل القديمة يُنعش الروح ويُفرح القلب ويهدهد الخاطر ، كم هو جميل أن تعاين مآذن الحرم والطريق الصاعد نحو الشمال مخترقاً أزقة الخليل القديمة في حبور يتهادى نحو القلوب .

إذن ها أنا أشاهد الخليل (راية شوقي وعشقي) مرة أخرى ..... ها أنا أمشي في دروبها وأزقتها من جديد ..... انتظرت طويلاً طويلاً على النوى وأنا أمنّي النفس بغدٍ مشرق جميل تطأ فيه قدماي أرض الخليل كي أرتوي بعد سنين الظمأ وتيه المنافي وأيام الضنا ووجع القلب من ينابيعها وآبارها وشواطئ عينيها .... كنا قد اعتدنا أن نحتسي ماء الخليل لنطفئ حر قلوبنا ونداوي عطش الأيام وظمأ الروح وكم آلمنا وأشجانا ونكأ جروحنا أن ألفينا خليل الشوق مئذنة عطشى والبحر ملح ، تصطف صهاريج المياه الضخمة يومياً مقابل مبنى البلدية ليتزود الناس بالماء اللازم للحياة ، هناك سلب ونهب لأحواض المياه في الخليل الأمر الذي يُعرض مئات الآلاف من أهلها للعطش في حر الهواجر في الصيف .

في الأحزمة الخارجية لمدينة خليل الرحمن المعهودة تستطيع أن تعاين الكتل الاسمنتية الهائلة للبيوت السكنية والعمارات والأحياء الجديدة فنشعر أننا قد اضعنا بوصلة الذكرى والماضي القريب ، في طريقنا نحو الحرم الإبراهيمي كنت ابحث عن شوقي القديم وحنيني الذي لم يهدأ على امتداد تلك السنوات ..... هبطت علينا مشاعر الصفاء وعدنا الى خوالي الأيام ، حاولت العثور على أحلامي الممزقة وصفو مدامعي وراياتي التي لازالت تخفق هناك في نواصي الحواري وأفواه الحارات التي لازالت تحاكي الزمن وتهزأ بالغزاة وتصيح في معارج الأفق
"لا اله إلا الله" .

في تلك الطريق عشنا لحظات الماضي كما كانت وأحسسنا أن الزمن لم يتحرك ولم تدور الأيام دورتها .... هناك في الشارع المسقوف تنسمنا رائحة التاريخ الشذية وعبق الأيام وأطيافاً ما نسيناها ولا انفكت عن جوانحنا .
من اليوم الذي غادرت فيه الخليل وحيل بيني وبينها كنت أغرق شوقاً لرؤيتها والصلاة في حرمها مرة أخرى والتمشي في أزقتها القديمة والمناداة من هناك على سوانح الذكريات ، آلمنا وأحزننا كثيراً أن نرى الخليل القديمة بدروبها ومعالمها قد تم السطو عليها وسرقتها وتحويلها إلى مربعات للمستوطنين ، فقلب الخليل النابض يرحل كل يوم مبتعداً نحو المجهول ؟!

الكثير من الناس يؤثرون السلامة فلا يؤمون الحرم – حتى أيام الجمع – تفادياً لمخاطر نقاط التفتيش والتدقيق والمتابعة والمراقبة .
قال لي الحاج اسحق الزغير أنه عاد من باب الحرم بسبب ثقل الاجراءات المتبعة لدخول المصلين لذلك أحزنني أن أرى أعداد المصلين قليلة جداً في يوم جمعة مشهود ؟!
آلمني أن يؤم الحرم الإبراهيمي مجموعة صغيرة من المصلين والبقية من النساء والصبيان ، يجب أن يفيض أهل الخليل وأهل فلسطين للصلاة في حرمهم في كل الأوقات وخصوصاً في أيام الجمع كما يفيضون للحرم القدسي في وقت تتصاعد فيه الهجمة على مسرى رسول الله ومدينة خليل الرحمن إنه لأمر في منتهى الخطورة أن يهجر الناس حرمهم إيثاراً للسلامة أو عملاً بقول من قال :- (ابعد عن الشر وغني له) ؟!

هذا حرم إبراهيم الخليل عليه السلام وإعماره يكون بالصلاة فيه والترداد عليه والإقامة فيها والاعتكاف وعدم تركه فريسة سهلة لشذاذ الآفاق من المستوطنين ، ولا بد أن أذكر انني قابلت قبل أيام الشيخ تيسير التميمي قاضي القضاة والمهندس خالد القواسمي وزير الحكم المحلي في الحرم الإبراهيمي يؤديان صلاة الجمعة رغم إجراءات الاحتلال وسيطرته على معظم أجزاء الحرم وتنكيله بالمصلين .

يجب أن ينتبه أهل الخليل وأهل فلسطين والعالم العربي والإسلامي الى خطورة التفريط أو التهاون في الدفاع عن الحرم الإبراهيمي والخليل القديمة وتسلية النفس ببناء الأحياء الجديدة واستحداث الشوارع والأسواق المكتظة كنوع من أنواع التعويض عن الخسائر الفادحة ، عليهم أن يعلموا أن أمراً كهذا يهدم معادلة الروح القائلة بأنه ان ضاعت الخليل القديمة في دروب الإحتلال وجحور المستوطنين فلا بقاء لأهل الخليل في أراضيهم وموطنهم ؟!

ها هم أهل الخليل كما أعرفهم يحدّقون بك كي تسلّم عليهم فيردوا عليك التحية بحماسة قوية ونبرة مريحة وابتسامة تشعر بالرضا فإذا لم تفعل سلموا عليك ، الكثيرون منهم منهمكون في أعمالهم المعتادة فإذا وقعت عينا أحدهم عليك توقف ملتفتاً فإذا سلمت عليه عرفت أي جيران هم لسيدنا إبراهيم الخليل .
هناك في (مرافئ العاشقين) في الخليل وقفت في كل الدروب والمسالك التي كنت أحبها وعاودت السير في طرقات ذرعتها قدماي أيام الصفاء والوفاء .

في رحلة الروح الى خليل الرحمن غاب عن المشهد بعض الأحبة الذين مضوا في رحلتهم وتركونا ننشد أشعارنا وننادي على لحن قلوبنا ....... افتقدت الشيخ محمد علي الجعبري الذي كنا نزوره في بيته أيام مرضه لأخذ رأيه في أمر ما حول اتحاد الطلبة إنه مؤسس كلية الشريعة الإسلامية نواة جامعة الخليل ورئيس سابق لبلدية الخليل ، افتقدت الشيخ برهان الدين كامل الجعبري أستاذي ومعلمي فسلام عليهما في الخالدين ، افتقدت الدكتور خُلقي خنفر أمد الله في عمره لم أتمكن من رؤياه بسبب عطلة الجمعة ، افتقدت المهندس فهد القواسمي رئيس سابق لبلدية الخليل قبل إبعاده الى لبنان ، وأحببت أن أقابل أستاذي حافظ الجعبري ولكنني لم التقه لسوء حظي تذكرت الحاج عبد الله عمر الجعبري (أبو عمر) ذلك السائق النبيل الذي كنا نصطحبه في ترحالنا أيام الجامعة فسلام عليه حيث يكون .

ذكرت الخليل في كل البلاد التي ألقيت فيها عصا ترحالي من جبال اليمن الى طرابلس الغرب ، وقفت أنادي على الخليل من منحدرات حضر موت وذرى جبال عسير ومن أعماق الصحراء الليبية والجزائرية .
كتبت عن الخليل كثيراً ..... في مذكرتي ..... وعلى صفحات الأيام ..... ومن المنافي التي أبعدتني عن موطني .

كتبت عن الخليل (معشوقة الروح) ما لم أكتبه عن سواها في هذه الحياة ، ذكرتها في خواطري وأشعاري ..... وتخيلتها عروساً ساحرة الجمال ترتدي زهر حقولنا وأقحوان بساتيننا في دير الغصون ......

أردد اسمها في خاطري فتؤنس وحشتي وتنعش ذاكرتي وتطرب روحي ويغني قلبي أغنية الحياة ، عندما كان يستبد بنا الحنين وتصرخ أعماقنا كنا نلوذ بخليل الرحمن كي نعيد دورة الأيام من جديد ، فهل يبدأ الزمان من هناك ؟ وتنبعث الحياة في ذاكرتنا عند أبواب الحرم ؟ وهل تلتقط أنفاسنا الزاهية نحو المدى الطويل في ميادين المنارة وأبن رشد وباب الزاوية ؟!

وهل تعاودنا الذكرى الجميلة والطيف الماتع والخيال الساجع هناك في بئر المحجر وشارع السبع البعيد ومرابع الحرس الرحيب ؟!

وأُسائل الساكنين ربى الخليل :- هل يا ترى في ساحكم قد انتظم القصيد ؟!
وهل استدار نهاركم في يوم عيد ؟!

يا سراة الليل :- هذي تحايانا ...... سلامات الهوى وعطر قلوبنا ودائع أوصلوها للخليل ، يا راكبين الدرب نادوا واصرخوا :- يا خليل الروح قد طال الجفا
يا خليلي في الهوى :- أين الوفا ؟!

أمّلت طويلاً أن أعيش في ربوع الخليل كي تهدأ جوانحي وتنام عيني ولكن أبت الأيام الا أن أنادي عليها من بعيد .... وأشاهدها طيفاً في خيالي ، من أجل ذلك أطوي العمر وقلبي لا ينام .

على العالم أن يُصغي إلي وأنا أتحدث عن مدينة الخلود والجدود ، وعن مدينة القداسة والحب العظيم ومدينة العنفوان العربي والحلم الجميل ومدينة التاريخ الإسلامي التليد .
على العالم أن يُصغي ونحن نحدث الدنيا عن مدينة الرسل ..... مدينة إبراهيم وأهله عليهم السلام ، على العالم أن يقف خاشعاً ونحن نقوم بترتيل سورة إبراهيم الخليل وأن يقف في حبور ونحن نغني أنشودة الخليل ،،،
"فشمس الخليل أبداً لن تغيب"


سليم عبد الرحمن الزغل / طولكرم
باحث وأكاديمي
رئيس سابق لاتحاد طلبة جامعة الخليل

هناك 4 تعليقات:

  1. راااائع ماكتبت ياستاذنا العزيز

    دمت بالف خير

    بانتظار جديدك...

    ردحذف
  2. شكرا على هذا الكلام الرائع يا استاذ سليم
    جمعية تنمية الشباب / دير الغصون
    ehab muhana

    ردحذف
  3. ارجو من حضرتكم ان تزوروا موقعنا وتعطي رأيك به
    http://yda-algouson.blogspot.com/

    ردحذف
  4. كل الإحترام والتقدير والشكر الجزيل على هذه الكلمات الرائعة والطيبة

    أدامك الله ذخرا للوطن

    تحياتي لكم مني انا
    مصطفى "برهان الدين" كامل الجعبري

    ردحذف